يزداد المشهد اللبناني تعقيدًا، بعد أن بلغت المساعي الداخلية والخارجية أفقًا مسدودًا وعجزت -برأي كثيرين- عن مجرد تقريب وجهات النظر بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري.

ومع مضي نحو 5 أشهر على تكليف الحريري بتشكيل الحكومة، تبلورت الأسبوع الماضي مساعٍ جدية بهدف تشكيل حكومة استنادا لعدة مؤشرات:
– اقتراح توسيع الحكومة من 18 إلى 24 وزيرًا بمبادرة من رئيس مجلس النواب نبيه بري (حليف حزب االله) ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط.
– حراك دبلوماسي (عربي وغربي) واسع في بيروت.
– تلويح أمين عام حزب الله حسن نصرالله في خطابه الأخير عن جهود جادة وجماعية لتذليل بقية عقبات تشكيل الحكومة.
وتتداول أخبار عن لقاء محتمل قد يجمع صهر عون النائب باسيل والحريري بالإليزيه.
– وأخيرا زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري للبنان، الأربعاء 7 أبريل/نيسان، والذي غادر البلاد على وقع ولادة العقد بدل الحكومة.

ورغم هذه المؤشرات تبددت فرصة لقاء قريب بين الحريري وباسيل في فرنسا، ثم ارتفع مستوى التحذير الفرنسي من لغة التعميم إلى التحديد، عبر التوجه لـ "بعض القوى" فصرّح وزير الخارجية جان إيف لودريان أنه، والرئيس إيمانويل ماكرون، أبلغا المسؤولين اللبنانيين برسالة عن إمكانية "اتخاذ إجراءات بحق من أعطوا الأولوية لمصالحهم الشخصية على المصلحة العامة، وإن كانت بعض هذه القوى لا تريد التعامل بمسؤولية فنحن سنتعامل بمسؤولية".

ومن جهة أخرى، يرى مراقبون أن الرئيس عون أرسى معادلة جديدة مفادها "التدقيق الجنائي مقابل الحكومة" بعد أن صعّد بخطابه أمس محملًا المصرف المركزي مسؤولية تعطيل التدقيق الجنائي في حسابات البنك، واعتبره ضربا للمبادرة الفرنسية، مخاطبًا اللبنانيين "أنا ميشال عون رئيس الجمهورية، أنا ميشال عون الجنرال.. فدعونا نكتشف معاً الحقائق لنسترجع الحقوق، ولاحقين نختلف بالسياسة".

وترافق تقاذف الاتهامات الداخلية مع زيارة الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، السفير حسام زكي، للبنان، أمس الخميس، جال فيها على الرؤساء الأربعة، وأعرب عن "قلقه من الوضع في لبنان، وأثنى على أفكار بري كمخرج لتشكيل الحكومة".

تصعيد المواجهة

يبرر وليد الأشقر، عضو المكتب السياسي في التيار الوطني الحر (برئاسة باسيل) رفع عون سقف المواجهة "لإدراكه أن الحريري وحلفاءه عبر المركزي ووزارة المالية، يعرقلون التدقيق الجنائي".

وقبل نحو عام، أقرت حكومة حسان دياب مشروع التدقيق الجنائي، لكن شركة "ألفاريز آند مارسال" (Alvarez & Marsal) -الموكلة بالتدقيق- اعتذرت عن مهماتها في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، لأنها لم تحصل من المركزي على المستندات والمعلومات الكافية للتدقيق.

وعن مبادرة توسيع الحكومة من 18 إلى 24 وزيرًا، يوضح الأشقر للجزيرة نت أن عون وباسيل منفتحان على تحقيق صحة التمثيل ومراعاة الأصول الدستورية والميثاقية، نافيًا تمسك فريقه بالثلث المعطل، ويتهم الحريري بالسعي للحصول مع حلفائه على النصف زائد واحد لعرقلة أي مشروع يكشف تورطهم بالفساد.

وبحسب الأشقر، فإنّ باسيل سُئل من الإدارة الفرنسية إن كان جاهزًا للقاء الحريري بالإليزيه، فأبدى استعدادًا، ويعتبر أن الأخير تهرب من المواجهة، وأن عون يتمسك بمعادلة إمّا التأليف وإما الاعتذار لتكليف رئيس بديل بتشكيل الحكومة.

ولا يوافق مصطفى علوش نائب رئيس تيار المستقبل على هذه المقاربة، ويرى أن عون يريد حصر الحلّ مع الحريري عن طريق باسيل، مما يدفع الرئيس المكلف لرفض لقائه بفرنسا "لأن المفاوضات تكون مع رئيس الجمهورية وليس مع نائب ووزير سابق (أي باسيل)".

ويستغرب علوش دعوة عون للحكومة المستقيلة عقد جلسة استثنائية للبحث بالملف، رغم مخالفتها للدستور.

وقال للجزيرة نت "لا يريد عون سوى تحسين شروط باسيل، وهما يستقويان بدعم حزب الله الذي يترقب مسار المفاوضات الإيرانية الأميركية، ولا يمانعون تدمير البلد مقابل الإصرار على الاستئثار بالسلطة".

وأكد علوش أن الحريري لن يتراجع عن شروطه لتشكيل حكومة من الاختصاصيين، نافيًا وضع "فيتو" سعودي عليه، وذكر بتصريح وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان الأخير، حين دعا لضرورة الذهاب لتشكيل حكومة ذات مصداقية، قادرة على تنفيذ الإصلاحات الموعودة.

خيارات فرنسية

وواقع الحال، يرى مراقبون أن المبادرة الفرنسية تتهاوى رغم محاولات تدوير زواياها، لذا ترى الكاتبة والمحللة السياسية روزانا بومنصف أن الفرنسيين ما زالوا يفتشون عن مخرج للأزمة للبنانية، وتعتبر أن باريس أخطأت بتكرار محاولة المبعوث الفرنسي باتريك دوريل في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، حين طرح فكرة لقاء باسيل الحريري لحل العقد بينهما، وتستغرب الرهان على نفس الفكرة، من دون أن تلقى تجاوبًا متبادلا.

وتعتبر بومنصف أن أي مسعى، لرعاية لقاء خارجي، يريد باسيل عبره فتح نافذة مع الخارج لخرق العقوبات الأميركية المفروضة عليه.

لكن الأكاديمي وأستاذ العلاقات الدولي وليد عربيد يربط صمود المبادرة التي قادها ماكرون، بارتباط فرنسا التاريخي بلبنان، و"لأن هذا البلد يشكل رأس حربتها بالمتوسط، اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا". ويدعو لترقب جولة ماكرون بالخليج بعد أيام، وما سيسفر عن نتائجها بعد بحث الملف اللبناني، وتحديدا مع السعودية.

ويتوقع عربيد استئناف المسعى الفرنسي للقاء الحريري باسيل، ويعتبر أن عون يسعى لاستعادة التوزان عبر فرنسا، على قاعدة أن اتفاق الطائف (عام 1989) قضم من صلاحيات رئاسة الجمهورية (الممثلة للمسيحيين) لصالح صلاحية موقع رئاسة الحكومة (الممثلة للطائفة السنية).

وقال للجزيرة نت "قد تبحث فرنسا جديا بخيار العقوبات، خصوصا أن معظم النخب السياسية لديها حسابات بالمصارف الفرنسية، وربما تبدأ بشخصيات ثانوية لرفع العصا بوجه قيادات الصف الأول".

وهنا، تشير بومنصف للجزيرة نت إلى أن ثمة معطيات حول طرح مسألة العقوبات على الطاولة الفرنسية، لكنها تواجه إرباكًا، لأن الفرنسيين يعتبرون أن العقوبات الأميركية بعهد دونالد ترامب عقدت المشهد اللبناني، وكبّلت مبادرتهم، وحتى لو اتخذت فرنسا قرارها بفرض العقوبات على "بعض القوى" فستقع بمأزق الاختيار، وستواجه إشكاليات اختيار الشخصيات، سواء من فريق عون أو الحريري، مع ما يمثلاه سياسيا وطائفيا، وبالتالي كيفية صوغ تواصلها مع القوى السياسية في حال سلكت مسار العقوبات.

وعليه، تعتبر بومنصف أن فرنسا تواجه أحرج موقف لها، لأن الانسداد السياسي اللبناني من عمر مبادرتها بعد انفجار المرفأ في 4 أغسطس/آب، وأن هذا الإحراج يمس بهيبة ماكرون أمام المجتمع الدولي والداخل الفرنسي، بعد أن جاء للبنان مرتين.

وقالت إن فرنسا مضطرة لاتخاذ خطوة ما، بعيدا عن التلويح، وكل الخيارات تخضع لدراسة دقيقة مع الاتحاد الأوروبي "لأن الخوف لم يعد من انهيار لبنان، وإنما من تفككه، وما يتبع ذلك من مخاطر أمنية وديموغرافية وجغرافية".

ولا يملك أحد من المجتمع الدولي أي مبادرة جدية وبديلة عن المبادرة الفرنسية، وفق بومنصف، لأن الدول الغربية غير مستعدة لصرف الأموال بلبنان، مقابل تعويلها على الدول العربية والخليجية، وتسعى لأخذ دعمها، كطرف قادر على دعمه ماديا، خوفًا من تداعيات سقوطه مع إطاحة محاولات تشكيل الحكومة.